• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأبناء وأحلام الأهالي الضائعة

الأبناء وأحلام الأهالي الضائعة

مَن منا لا يندم على أحلام أراد تحقيقها خلال حياته، لكنه لم يفعل، أو على فرص ضاعت منه من دون أن يغتنمها؟ لذلك، يرى عديد من الأهل في أطفالهم فرصة لتحقيق أحلامهم الضائعة. ويؤكد علم النفس وجود مثل هذه الرغبة لدى شريحة واسعة منهم. وكانت أوّل مرة تم فيها تسليط الضوء على هذه الظاهرة من خلال نظريات وضعها عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد، "أبو التحليل النفسي الحديث" والطبيب النفسي السويسري كارل يونج، وهو أبرز مؤسسي علم النفس التحليلي، وذلك عندما تناولا العلاقة النفسية بين الأهل وأطفالهم.

ولكن أفكارهما بقيت مجرد نظريات من دون أن يقوم أحد باختبارها على أرض الواقع، إلى أن قرّر إيدي بروملمان البروفيسور في علم النفس بإحدى جامعات أمستردام، أن يستكشف أساس هذه النظريات ومدى صحّتها.

أجرى إيدي بروملمان دراسة شملت 73 شخصاً، ممن لديهم طفل واحد على الأقل، ما بين 8 و15 سنة، وكان 89 في المائة من هؤلاء الأشخاص من الأُمّهات. وأوّل ما تمّ سؤالهم عنه المدى الذي يرون فيه أنّ أطفالهم جزء منهم. ومن ثم طلب منهم التعبير عن أحلام لم يستطيعوا تحقيقها خلال حياتهم.

وبعد ذلك طُرحت عليهم أسئلة تستكشف مدى رغبتهم في أن يحقق أطفالهم أحلامهم الشائعة.

خلصت الدراسة إلى أنّه كلما ازداد اعتقاد الأهل بأنّ أطفالهم جزء منهم، اشتدت رغبتهم في تحقيق أحلامهم من خلال أطفالهم.

لكن علم النفس يؤكد أنّ واحداً من أكبر الأخطاء التي يرتكبها الأهل يتمثل في محاولة دفع أطفالهم لتحقيق أحلامهم الضائعة، فالأطفال يتميّزون بالبراءة التامة وبتأثرهم بكلّ مَن وما يدور حولهم، ولذلك يعود الأمر إلى الأهل لكي يكونوا مثالاً جيداً لهم. ولا شكّ أنّ في ذلك مسؤولية كبيرة، ولكنه في الوقت ذاته، يعطي الأهل قدرة كبيرة على التحكم بأطفالهم، وبالتالي يميل عديد منهم إلى إسقاط ماضيهم وآمالهم وأحلامهم على أطفالهم. وقد يقومون بذلك لاعتقادهم بأنّ في ذلك مصلحة أطفالهم وأنّ دفعهم نحو ممارسة نشاط رياضي معيّن، أو العزف على آلة موسيقية محدّدة، أو اختيار مهنة معينة دون غيرها، يؤدي إلى إعطائهم الفرص التي حرموا هم منها، ولكن غالباً ما يكون ذلك تبريراً ملائماً يساعد على تجنّب ما يحصل فعلاً.

 

إحساس الأطفال العميق:

يقول "براد بوشمان"، أحد مؤلفي كتاب "طفلي يعوّض أحلامي المكسورة"، إنّ الأطفال في صغرهم يقومون بأي شيء لكي ينالوا رضا أهلهم، كما أنّهم يمتلكون درجة إحساس عالية تمكّنهم من قراءة الأهداف التي نرسمها لهم، والأمور التي نفضلها لهم، وبالتالي يقومون بتعديل تصرّفاتهم وفقاً لذلك.

وحتى لو عبّروا عن تأكيدهم أنّهم يحبّون هذا النوع من الرياضة أو المشاركة في هذه المسابقة أو تلك أو الصعود إلى المسرح للغناء، فالحقيقة أنّ ما لديهم هو رغبة كبيرة في إسعاد أهلهم. وقد يقنعون أنفسهم برغبتهم في القيام بما اختاره لهم أهلهم فقط من أجل إرضائهم.

 

العوائق أمام تحقيق الاستقلالية:

ولكن لابدّ من أن يؤثر إجبار الأطفال، ولو بطريقة غير مباشرة، على سلوك طريق معيّن، على عملية نضوجهم الطبيعية. وقد يؤدي ذلك إلى وضع عديد من العقبات أمام تطوّر شخصيتهم الخاصة، وبدل أن يكبروا ويتعلموا الاعتماد على أنفسهم سيبقى اعتمادهم الأكبر على أهلهم، وسيظلون غير قادرين على أن يقرروا بأنفسهم ما هو الأفضل لهم.

وعندما يدخلون في مرحلة المراهقة لابدّ أن تصبح الأمور محيّرة أكثر بالنسبة لهم، مما قد يدفعهم للتمرّد والتصرّف وفقاً لمشاعرهم غير الواعية من الرفض، وتتبدّل رغبتهم في إرضاء أهلهم لتحلّ محلها الرغبة في إحباط الأهل وتخييب آمالهم. وحتى عندما تتغير مشاعرهم في ضوء التأثر بالعلاقة مع أهلهم، وبدل أن تتكون لديهم رؤيتهم الخاصة للأمور سيبقون في فترة مراهقة دائمة.

يقول بول توف في كتابه الشهير، الذي أصبح من الكتب الأكثر رواجاً في الولايات المتحدة، والذي يحمل عنوان "كيف ينجح الأطفال؟": إنّ إعطاء الأطفال الفرص وابتعاد الأهل عنهم ليتعلموا من أخطائهم هو من أهم عوامل بناء الشخصية، التي تساعدهم على النجاح في المستقبل. ولا شك في أنّ فرض أحلام الأهل على أطفالهم يحرمهم من تصوّر حياتهم بالشكل الذي يريدونه، ومن الاستقلالية التي تمكّنهم من ارتكاب أخطائهم الخاصة والتعلّم منها.

 

حياة الأهل لا تتوقف بمجرد إنجاب الأطفال:

أما بالنسبة للأهل فهناك أمر يتعلق بأساس فكرة عيش أحلامهم من خلال أطفالهم، وهو الافتراض الذي قلّما تتم الإشارة إليه أو الاعتراف به فعلاً. إذا ما أراد الأهل أن يعيشوا أحلامهم من خلال أطفالهم، فإنّ ذلك يعني أنّ حياتهم تكون في الأساس قد انتهت، وأنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يحققوا فيها آمالهم هي من خلال أطفالهم. ولكن مَن قال إنّ الأمر يجب أن يكون كذلك؟ لا شك في أنّه من الخطأ أن يلجأ الأهل إلى عيش أحلامهم من خلال غيرهم، خصوصاً من خلال أطفالهم، وذلك لا يعني أنّه ليس بإمكانهم أن يعيشوا أحلامهم بالمطلق، فقد لا تكون الأحلام التي نعيشها في عمر الـ35 أو الـ45 أو الـ55 غير ممكنة التحقيق. هناك اعتقاد سائد لدى عديد من الأهل أنّه بمجرد وجود أطفال لهم سيكون من الأنانية استثمار أوقاتهم وطاقاتهم في أي أمر آخر. ولكن الأمر ينبع من اعتقاد خاطئ لما يتوقعه الأطفال من آبائهم. وقد أظهرت الدراسات أنّ الأطفال يرغبون في رؤية آبائهم يقومون بأمور شائقة ومثيرة للاهتمام، لأنّ ذلك يلهمهم ويعطيهم شيئاً يفخرون به أمام أصدقائهم. على الأهل أن يتذكروا دائماً أنّهم أهم نموذج لأطفالهم. وتؤكد هذا الأمر الكاتبة رينيه بيفرسون في كتابهما "دليل الأُم إلى تجديد ذاتها"، وتقول: إنّ "أفضل هدية تقدمها الأُم لأطفالها هي محبة ورعاية ذاتها".

وختاماً لا شكّ في أنّه من الطبيعة الإنسانية أن يتمنى الأهل الأفضل لأطفالهم وأن يرغبوا في أن يحققوا ما لم ينجحوا هم في تحقيقه. ولكن ما يجب أن نتذكره دوماً هو أنّ أطفالنا ليسوا جزءاً منا أو امتداداً لنا، بل هم أشخاص مستقلون لهم آمالهم وأحلامهم الخاصة، وهذا ما أدركه جبران خليل جبران في كتابه "النبيّ" حين قال: "أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة".

 

مهى قمر الدين (كاتبة من لبنان)

المصدر: مجلة العربي/ العدد 685 لسنة 2015م

ارسال التعليق

Top